الخميس، 31 أكتوبر 2013

مِـــنّـــي و إلٓـــــــيّ

لا أدري كم من السنوات مرت منذ آخر خاطرة لي بالعربية 
قد يكون السبب قوة هذه اللغة المذهلة في التعبير عن بعض المشاعر الانسانية كـ "الألم" و "الغضب" و "الحب" بطريقة غير ممكنة بأي لغة اخرى ، و هي بالتالي لغة فاضحة، تجرد الكاتب من اقنعة التعابير المنمقة...
لا يرغب كثير من الكتّاب باظهار ذواتهم الحقيقة من خلال ما يكتبون ، فذلك يجعلهم عرضة للمحاكمة بإجحاف ... لكنها لغتنا الأم على اية حال، و لا يمكننا تخطيها لنكتب بلغة اخرى قبل ان نمنحها شرف الكلمة الأولى.
عندما بدأت بالكتابة كان لدي مفكرة على غلافيها وجهان احدهما ضاحك و الآخر تعيس 
كتبت على الصفحة الأولى "مِنّي و إلّي"
و رحت اخط على صفحاتها اشجاني الطفولية بتعابير واهية ، الارجح انني سأموت ضحكاَ اذا قرأتها الآن..
اتخذت من مفكرتي أنيساَ للّيالي التي قرر النوم الّا يشرفني بالزيارة فيها، و جعلت ما بين دفتيها ملاذي الآمن : لقد كانت مملكتي التي احكم اطرافها بخيالي و أخط حدودها بقلمي.
كنت اشكو اليها ما يزعجني ، و اقص عليها غرابة هذا العالم و لا منطقية ساكنيه ، و نعم المستمع كانت مفكرتي !
أليس من الغريب ان نجد عزائنا في وريقات تصنع من لحاء الاشجار ، وان تكون تلك الشرائح البيضاء افضل صديق و أنبل رفيق قد نحظى به في زمن ندر فيه المستمعون و كثر فيه اللجوجون ؟
الورق يستمع بلا مقاطعة ، يتلقى بصدر رحب رصاص كلماتنا و خدوش اقلامنا، غير مبال بسُمّيَّتها او سذاجتها ...الورق يتسع للكثير الكثير من الاحاسيس ، لكن الاهم ان الورق لا يحاكمنا. إنه يستمع بصمت و تفهم عجيبين يجعلك تفضل صحبته على صحبة الآدميين.

عندما ظننت انني اكتفيت من الكتابة ، اهديت مفكرتي لصديقتي المقربة عند تخرجنا من الثانوية..كانت مسافرة الى بلد اجنبي وأردت ان اعطيها شيئاً يذكرها بي. ولم أجد افضل من ذكرياتي .
سبب آخر دفعني لذلك هو أنني كرهت ان اودع اسراري في خزنة واحدة ؛ مفكرتي كانت تعلم الكثير عني وكان علي ان ابتعد عنها من دون ان امزقها بنفسي...لم يكن بإمكاني التخلص منها بالتأكيد فقد كانت اقرب اصدقائي في وقت من الاوقات و لست شخصاً دنيئاً الى هذه الدرجة لأخون احد اصدقائي، حتى وان كان كائناً غير حي. لذلك فكرت بمشاركتها مع شخص آخر له القدرة على محاكمتي ..
و ماذا ان تمت محاكمتي ؟
كل منا يخفي جانبآ لا يظهره للآخرين و يرغب في ان يدفنه عميقآ حيث لا يرى النور و حيث يفنى شيئاً فشيئاً ..
و لكن من منا فكر في فصل ذلك الجانب و جعله يسافر بعد عناق طويل الى الطرف الآخر من العالم  ؟
انها لفكرة شاعرية ان تفصلك آلاف الاميال عن جزء من ذاتك، من دون ان ينقطع الخيط الذي يربط الجزء بالكل...عندها لن تضطر الى محو جزء لا يتجزء ممن تكون و لن تضطر الى مواجهته ايضاً. انها الطريقة الامثل لتحقيق التوازن بين التقزز من الذات وتقبل الذات.
في ذلك الوقت بدأت ادرك ان مجرد التنفيس عن الغضب من خلال الكتابة ليست افضل الطرق لمواجهة اي مشكلة، ففي النهاية ، طيات دفاترنا مجرد مهربٍ تخيليّ نأوي اليه عندما نكون محاصرين..
بدأت عندها برؤية العالم بمنظار آخر يرى ابعد من الوجهين المتناقضين: السعيد او التعيس. هناك اوجه اخرى..و كلها حقيقية ، اي كلها جميلة ، و كلها اجزاء مني سأرسلها مع كل حبي و تقديري في رحلات حول العالم لأعود لقرائتها بعد ان اصبح شخصاً افضل.. وربما تترقرق دمعة او اثنتان بينما اقلب صفحاتها.

لقد كانت مرحلة من حياتي لا اريد ان اتذكرها و لا اريد ان امحوها ؛ مرحلة يدعونها جهلاَ "أزمة" المراهقة و هي في الحقيقة مجرد موسم عابر من الاعاصير يحدث الكثير من الغبار و الفوضى عند قدومه لدرجة فد تعمينا عن رؤية الحقيقة...
لكن الفوضى ليست سلبية في كليتها ؛ الفوضى تعلمنا ان لا وسيلة للعثور على ذواتنا المدفونة تحتها سوى البدأ بالتنظيف بأنفسنا.

اخبرتني صديقتي بعد ان قرأَت ما اهديته ليها ان العواطف المتجسدة في الكلمات هي اروع هدية يمكن ان تقدمها لأي شخص، لأنها مرآة مصقولة لا تعكس سوى روح كاتبها، مجردة من النفاق.....
كلماتها كانت عميقة جداً لكنني لم ادرك صحتها الا بعد سنوات، بعد ان "عدت الى الحياة"...و بعد انشائي لهذه المدونة ، و التي هي مهداة اليها و الى كل من تعزه نفسي. اهديكم جميعاً اكليل افكاري و زهور كلماتي، كما كتبت في اول تدوينة.

غير انني لم أجرؤ على الكتابة بالعربية منذ أيام المفكرة ، قد يكون السبب انني في عقلي الباطن، خصصت هذه اللغة لفترة احتجت فيها الى كلمات حية ، قادرة على الصراخ بفحوى معانيها، و هي فترة موسم الاعاصير في كياني..
او ربما بسبب احترامي الشديد لهذه اللغة ، مما جعلني اصاب بالرهبة كلما اقدمت على نظم كلمات لا تليق بمستواها، و لكن ها انذا اعود اليها من جديد لأنني لم اعد اخشى ان اظهر روحي من خلال كلماتي.. لقد ولدت من جديد و سأروي قصتي مجردة من كل الاقنعة.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق